عدنان بن عبد الله القطان

17 صفر 1443 هـ – 24 سبتمبر 2021 م

———————————————————————

الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، والمتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده، ( ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)  ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: جبر الخواطر، وتطييب النفوس، خلق إسلامي رفيع، وصفة من صفات المؤمنين، وهو عبادة جليلة، وسهلة وميسورة، أمر بها الدين الحنيف، وتخلق بها سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم… ومن أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العُلى الجبار، قال تعالى في محكم تنزيله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وكما أن اسم الجبار فيه صفة علو وقوة، فهو كذلك فيه صفة رأفة ورحمة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي، وَأهْدِنِي، وَارْزُقْنِي) فالله جل جلاله يجبر الفقير بالغِنَى، والضعيف بالقوة، والمنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها، وإحلال الفَرَج والطمأنينة فيها، ومِنْ لُطفِ الجبارِ وكرمه كما ورد في الحديث الصحيح أنه: يَنزِل تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ نزولاً يليق بجلاله فيقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟  فيجبر كسيراً ويعافي مبتلى، ويشفي مريضاً، ويغيث ملهوفاً، ويُجيب داعياً، ويُعطي سائلاً، ويُفرِّج كرباً، ويزيل حزناً، ويكشف همًّاً وغمًّاً.

وفي القرآن الكريم يُخبرنا الجبارُ سبحانه بجبر قلوب أنبيائه ورسله وتطييب نفوسهم، فيقص علينا خبر يوسف مع أخوته ويقول (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) فكان هذا الوحي لتثبيت يوسف ولجبر خاطره؛ فإنه ذاك المظلوم الذي أوذي من أخوته، فالذي يؤذى ويظلم يحتاج إلى جبر خاطر، ومن ثَم شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة... وهذا نبي الله موسى عليه السلام لَمَّا رغبت نفسُه إلى رؤية الله تعالى وطلب ذلك منه، أخبره سبحانه أن ذلك غير حاصل له في الدنيا، ثم سلَّاه، وجبر خاطره بما آتاه، فقال: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ولَمَّا أُخرِجَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من موطنه مكة، وهي أحب البقاع إليه، وقَف قبل خروجه وقال: (ما أطيبَكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ، واللهِ إنكِ لَخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ)، فجبر الله تعالى خاطره، وأوحى إليه وهو في طريقه إلى المدينة: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) أي: إن الذي أنزل عليكَ القرآن وأمركَ بتبليغه لَرَادُّكَ إلى الموضع الذي خرجت منه، عزيزاً فاتحاً منتصراً، ولقد صدَق اللهُ وعدَه، ونصَر عبدَه، ووعده بأن يعطيه حتى يرضيه، كما قال سبحانه: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) وقد صح في الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقول عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: (اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ)  فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: (اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ: إِنَّا سنرضيك في أمتك وَلَا نَسُوءُكَ).

أيها الأخوة والأخوات في الله: ولما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد من حزن وألم ووهن وجراح  جبر الله نفوسهم الكسيرة ، وطيب خواطرهم الجريحة وذكرهم الله تعالى بانتصاراتهم السابقة في بدر، وبين لهم أن ما أصابهم كان بقدر الله وسنة من سنن الحياة، ولحكمة أرادها الله فقال الله تعالى : (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ،  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)

عباد الله: إن جبر الخواطر سجية تدل على سمو نفس صاحبها، ورجاحة عقله، وسلامة صدره؛ فلذلك كان الحظ الأوفر منها لسيد المرسلين وإمام المتقين، محمد الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه أصلح الناس قلباً، وأصدقهم لساناً، وَسِعَ خُلُقُه الناسَ، سهولةً ورفقًاً، وفاضت يداه بالعطايا كرماً وجوداً، فكان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، يجبر خواطرهم، ويتفقَّد أحوالهم، ويسأل عن غائبهم، ويعود مريضهم، وكان لا يعيب طعاماً صنعه آدميٌّ؛ لئلا ينكسر خاطره، ويُنسب إلى التقصير فيه، وإذا بلغه عن الرجل الشيءُ المكروهُ لم يصرح باسمه، ولكن يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؛ حفاظًاً على المشاعر وكسباً للود... ومن صور جبره صلى الله عليه وسلم للخواطر ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابرُ، ما لي أراكَ منكسراً (أي منكسر البال والخاطر مهموماً حزيناً) قلتُ: استُشهد أبي وترك عيالاً ودَيْناً، فاجتمعت عليه رضي الله عنه وأرضاه أسبابُ الحزن؛ عيال كثير ودين ثقيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جَابِراً لقلب جابر: أفلا أُبَشِّرُكَ بما لقي اللهُ به أباك؟ قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: ما كلَّم اللهُ عز وجل أحداً قطُّ إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً (أي مواجهة) فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعطِكَ) وكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: لا تهتم بأمر العيال والدين؛ فإن الله تعالى سيقضي عن أبيك دَيْنه، ويَلْطُف بعياله، ولكن أبشرك بما نال والدك من القرب عند الله سبحانه، وما لقيه به من الكرامة..

 ولا شك أيها الأخوة، أن فقد الولد صدعٌ في الفؤاد، وسببٌ للحزن والانكسار، يحتاج مَنْ أُصِيبَ بذلك إلى من يجبر خاطره، ويطيِّب نفسَه، فقد صح في الحديث أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولده فانعزل عن الناس، فلمَّا فَقَدَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله، أبنه الذي رأيتَه مات، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبنه، فأخبره أنه مات، فعزَّاه عليه، ثم قال: (يا فلان، أيُّما كان أحبَّ إليكَ، أن تمتَّع به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا تجده قد سبقكَ إليه، يفتحه لكَ، قال: يا نبيَّ الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، لَهُوَ أحبُّ إليَّ، قال: فذاكَ لكَ... وفي موقف آخر، ها هو صلى الله عليه وسلم يجبر خاطر أحد أصحابه ويطيب نفسه لما علم منه أنه غير جميل في صورته ، وشأنه وضيع بين الناس، فقد كان هناك رجل من أهل البادية أسمه زاهر، وكان يأتي النبي  صلى الله عليه وسلم  ببعض الهدايا، ويبادله الرسول صلى الله عليه وسلم  بعض الهدايا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ زَاهِراً بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلاً دَمِيماً فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلاَ يُبْصِرُهُ فَقَالَ زاهر: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ زاهر يْلزق ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مازحاً (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْد؟ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْد؟ فَقَالَ زاهر يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذاً وَاللَّهِ تَجِدَنِي كَاسِداً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْك عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ، أَوْ قَالَ: لَكِنْك عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ) هكذا يطيب الرسول صلى الله عليه وسلم نفس صاحبه ويجبر خاطره بقوله له: (لَكِنْك عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ. أَوْ قَالَ: (لَكِنْك عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ)..

أيها المؤمنون والمؤمنات: ويدخل في جبر الخواطر البشاشةُ والتهنئةُ، والمصافحةُ والمعانقةُ، والمشاركةُ في سرور وفرح، أو في بكاء وترح، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تذكَّرت في حادثة الإفك، امرأة من الأنصار شاركتها في حزنها بدمعات كان لها أعظم الأثر والمواساة، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (وقد بكيتُ ليلتين ويوماً، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إني لَأظن أن البكاء فالِقٌ كَبِدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذَنَتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي)، وهكذا حال كثير من أساليب جبر الخواطر، يكفي فيها ابتسامة صادقة، أو كلمة حانية، أو اعتذار عن خطأ أو دعاء.. وليكن أخي المسلم لأهلك من جبر القلوب أوفر الحظ والنصيب، وخاصة الوالدين والزوجة والأبناء، والإخوة والأخوات وبقية القرابات، والأصدقاء والأصحاب، فاجبروا الخواطر، وشارِكُوا الإخوان في المشاعر، وتذكروا أنها عبادة جليلة يجازي عليها الجبار بأجور عظيمة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي)

 

اللهم اجبر خواطرنا برحمتك وفضلك، وجودك وكرمك ومنتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن جبر الخواطر كما سمعنا خلق إسلامي عظيم، يدل على سمو نفس، وعظمة قلب، وسلامة صدر، ورجاحة عقل، ونبل محتد وكرامة أصل، فتطييب النفوس المنكسرة، وجبر الخواطر من أعظم أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين، وهو خلق عظيم لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس النبيلة... وكل منا يتعرض في حياته الدنيا للهموم والكروب والضيق والأحزان، ويصبح بحاجة إلى من يأخذ بيده، ويجبر بخاطره، ويمسح على قلبه غاشية الحزن، ويرفع عن صدره جاثمات الكرب، فجبر الخواطر يعني فيما يعنيه تثبيت الآخر، ورفع همته، وتهوين مصيبته، وإقالة عثرته، والأخذ بيده حتى يقف على قدميه ، فما أجمل وأنت في غمرة الحزن أن تمتد إليك يد تسعفك، أو تسبق إلى أذنك كلمة تشد من أزرك وتسعدك، وتهون من أمر المصيبة  والحزن وتنجدك، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد يوماً فيجد صاحباً له من الأنصار يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فيقول له: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِى أَرَاكَ جَالِساً فِى الْمَسْجِدِ فِى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ . قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ. قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِى.. بل إنه صلى الله عليه وسلم قد جبر بخواطرنا نحن الذين نحبه ونشتاق إليه، ونتمنى لقاءه ورؤيته فقال يوماً لأصحابه: وَدِدْتُ أَنِّى لَقِيتُ إِخْوَانِي، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي)  أيها المؤمنون: جبر الخواطر، وتطييب النفوس، له أساليب متعددة ومواقف متنوعة  وتطبيقه سهل ميسور، فمثلًا إذا دخلت إلى مكتبك يوماً، وجاء إليك العامل بقهوتك، فشكرته وتبسمت فى وجهه وقلت له جزاك الله خيراً، فأنك تكون حينها قد جبرت خاطره.. وإذا ما احتاج زميل في العمل للمساعدة، وتبرعت بمساعدته فقد جبرت خاطره.. وإذا ما رأيت شخصاً، وأشدت بجمال مظهره ولباسه، حتى وإن كنت لا تراه جميلًا، فهذا يندرج تحت جبر الخواطر. وعندما ترى شخصاً، وقد حقق إنجازاً ما فى حياته، حتى وإن كان من وجهة نظرك لا يعتبر إنجازاً بالمعنى المفهوم، وهنأته وشجعته، فهذا جبر خواطر...

وعندما تقول لوالديك وزوجتك (شكراً) جزاكم الله خيراً، لتحملهم مسئولية البيت والأبناء، فذلك جبر خواطر، وعندما تقولين لزوجك (شكراً)  جزاك الله خيراً، لأنه يجد ويكافح من أجل توفير حياة كريمة للأسرة وإسعادها فذلك أيضاً جبر للخواطر.. والابتسامة جبر للخواطر، والكلمة الطيبة جبر للخواطر، ومساعدة الغير لمجرد أنك قادر على المساعدة جبر للخواطر.

ألا فطيبوا الخواطر بما استطعتم ولا تدخروا في ذلك جهداً ،لأن ذلك فيه شعور بالسعادة ، وفيه فتح لباب البر والإحسان، فما أجمل أن نواسي من حولنا ونجبر خواطرهم، وخاصة عند حدوث المحن والكروب ، لعل الله يجبر خواطرنا، ويديم علينا النعم، ويبارك لنا فيها، ويجزينا المزيد منها… ولله در القائل: من سار بين الناس جابراً للخواطر، أدركه الله بالعناية الدائمة، ونجاه من المخاطر.

اللهم اجبر خواطرنا برحمتك وفضلك، اللهم اجبر خواطرنا برحمتك وفضلك، وجودك وكرمك ومنتك، يا أرحم الراحمين، وأدخلنا جنتك من غير حساب ولا عقاب، مع آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأزواجنا وذرياتنا وأصحابنا ومن أحبنا فيك ومن أحببناه فيك.

اللهمَّ أهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفُ عنا سيئَها إلا أنتَ. اللهم إنك ترى مكانَنا وتسمعُ كلامَنا وتعلمُ سرَّنا وعلانيتَنا، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمرِنا، نسألُك مسألةَ المساكينِ، دعاءَ من خشعتْ لك رقابُهم، وذَلتِ لك أجسادُهم، وفاضتْ لك عيونُهم، ورغمتْ لك أنوفُهم، اللهم أصلحْ فسادَ قلوبِنا، اللهم ارحمْ ضعفَنا، وحَسِّنْ أخلاقَنا يا سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.

اللهم  كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وأهل فلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، والمصلين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا وارحم موتانا، برحمتك يا أرحم الراحمين..

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين